تغيرات جوهرية في العقيدة العسكرية الإسرائيلية بعد "طوفان الأقصى"

المؤلف: د. عمرو هاشم ربيع10.04.2025
تغيرات جوهرية في العقيدة العسكرية الإسرائيلية بعد "طوفان الأقصى"

منذ نشأة الكيان الصهيوني، استنادًا إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 181 الصادر في التاسع والعشرين من شهر نوفمبر/تشرين الثاني لعام 1947، والذي يتعلق بتقسيم أرض فلسطين، تجسدت في قلب الصراع العربي الإسرائيلي حقائق عسكرية راسخة، تم تحليلها وتدريسها بعمق في المؤسسات التعليمية العسكرية على مستوى الوطن العربي وخارجه على حد سواء.

لقد ارتكزت هذه المسلمات العسكرية على أسس متينة، مستمدة من الخطط والاستراتيجيات والمعارك الضارية التي خاضتها إسرائيل في عدوانها الغاشم على الدول العربية الشقيقة منذ عام 1948 وحتى قبيل عملية "طوفان الأقصى" البطولية في السابع من شهر أكتوبر/تشرين الأول لعام 2023. مرورًا بأحداث جسام كحرب يونيو/حزيران 1967، التي تطلق عليها إسرائيل مسمى "حرب الأيام الستة"، وحرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 المجيدة، إضافة إلى الحروب المتكررة التي شنت على أرض لبنان الأبي في أعوام: 1978 و1982 و1996 و2006، ناهيك عن الضربات المباغتة التي وجهتها إسرائيل ضد دول مثل العراق وتونس والسودان وسوريا.

إلا أن هذه المسلمات العسكرية الراسخة تبدو اليوم في تغير مستمر ومتسارع، وذلك بفعل عملية "طوفان الأقصى" الجبارة، التي أرغمت إسرائيل على خوض معارك ذات طبيعة مستحدثة، تحمل في طياتها سمات غير مألوفة، وبدلت بشكل جذري العقيدة العسكرية التي لازمتها منذ تأسيسها المشؤوم وحتى يومنا هذا. ومن أبرز هذه التغيرات المحورية:

1- الحرب على أرض الغير

لطالما سعت إسرائيل، منذ لحظة تأسيسها، إلى شن حروبها وعدوانها على أراضي خصومها وأعدائها، مدفوعة بنزعة استعلائية وغطرسة القوة البالغة، وتطلعها الدائم لاستعراض تفوقها وهيمنتها الإقليمية المزعومة. إذ لطالما شكل خوض الحروب والمعارك على أراضي الغير عنصرًا جوهريًا وحيويًا لأمنها الإستراتيجي الهش، بحكم أنها دولة صغيرة لا تقوى على تحمل أعباء معارك طويلة الأمد على أراضيها المحدودة. كما أن نقل المواجهات والمعارك إلى أرض الخصم يمنح الإسرائيليين شعورًا زائفًا بالأمان والاستقرار في بلدهم، هذا الكيان الذي يسعى باستماتة لتوطين اليهود فيه وتشجيع هجرتهم إليه من شتى بقاع الأرض.

بيدَ أن عملية "طوفان الأقصى" النوعية نقلت مسرح المعركة بشكل حاسم إلى الداخل الإسرائيلي العميق، حيث باتت المقاومة الفلسطينية الباسلة تقاتل ببسالة وشراسة على الأرض الإسرائيلية ذاتها، مما أدى إلى كسر منطق الاستعلاء العسكري الذي طالما تغنت به إسرائيل، وزعزعة غطرسة القوة التي تسيطر عليها، كما رسخ قناعة راسخة لدى العرب بأن الأمن الحقيقي الذي يتوقون إليه لن يتحقق إلا بسلام عادل وشامل يعيد الحق لأصحابه ويعيد الأرض إلى أهلها.

صحيح أن نقل المعركة إلى أرض الخصم قد حدث في السابق من خلال ردود المقاومة الفلسطينية المتواصلة على الاعتداءات الإسرائيلية المتكررة بقصف بعض المناطق داخل إسرائيل، إلا أن الكثافة الهائلة للهجمات هذه المرة، نتيجة لطول أمد المعركة واتساع نطاقها، أسفرت عن توجيه ضربات موجعة ومتواصلة على مدن رئيسية مثل تل أبيب ويافا وحيفا وبئر السبع وصفد. ومع انضمام "حزب الله" اللبناني و"جماعة أنصار الله" الحوثية إلى ساحة المواجهة، باتت صواريخ المقاومة ونيرانها تصل إلى مناطق أبعد، كالجليل وطبرية ومرتفعات الجولان المحتلة وأم الرشراش (إيلات).

2- تجربة الحرب الطويلة

لم يعتد الجيش الإسرائيلي يومًا على خوض حروب طويلة الأمد، إذ كانت أطول المعارك التي خاضها هي غزو لبنان عام 1982، والتي استمرت لبضعة أشهر، وحتى حرب النكبة عام 1948 التي استمرت من مايو/أيار 1948 إلى مارس/آذار 1949، لم تتجاوز في مجملها أحد عشر شهرًا.

أما حرب عام 1956، فلم تستغرق سوى عشرة أيام فقط. لكن عملية "طوفان الأقصى" البطولية فرضت على إسرائيل حربًا يومية مستمرة ومتواصلة، ما ينذر باستنزاف طويل الأمد لم يختبره الجيش الإسرائيلي من قبل في تاريخه المليء بالحروب والنزاعات، ويشكل عبئًا ثقيلاً على موارده العسكرية والبشرية المحدودة.

3- الحرب على جبهات متعددة

لم تشهد إسرائيل منذ عام 1967، أي منذ ما يزيد على نصف قرن، مواجهة حقيقية على جبهات متعددة ومتزامنة. أما اليوم، فيخوض جيش الاحتلال الإسرائيلي حربًا واسعة النطاق تتعدد فيها جبهات القتال والاشتباك، فإلى جانب الجبهة المشتعلة في قطاع غزة الصامد، هناك جبهة أخرى مشتعلة على الحدود اللبنانية، إضافة إلى العمليات النوعية التي تشنها "جماعة أنصار الله" الحوثية من داخل اليمن، فضلًا عن الاشتباكات المتفرقة التي اندلعت في الأراضي السورية.

وفي تطور خطير، ردّت إسرائيل في السادس والعشرين من شهر أكتوبر/تشرين الأول لعام 2024 على هجوم إيراني بعد تعرضها لضربات موجعة من إيران، نتيجة لاعتداءاتها المتكررة على المصالح الإيرانية في سوريا، واستهدافها الممنهج للجماعات الموالية لطهران في عدة مواقع.

إن فتح عدة جبهات في وقت واحد على إسرائيل يمثل تطورًا غير مسبوق يثقل كاهل الجيش الإسرائيلي ويرهقه، ويكلفه موارد مالية ضخمة، ويضعف قدراته القتالية التقليدية، على الرغم من الدعم الأمريكي والغربي المتواصل واللامحدود، ورغبته الجامحة في الظهور أمام خصومه وحلفائه الإقليميين بمظهر القوة الإقليمية الوحيدة المهيمنة، مما يدفعه بشكل متزايد إلى تغيير وتبديل عقيدته العسكرية الراسخة.

4- خوض حروب الشوارع

لم تعتد إسرائيل قط على خوض معارك شوارع أو الاشتباك بأسلوب حروب العصابات غير النظامية. فمنذ أن خاضت العصابات الصهيونية معارك شوارع دموية في المدن الفلسطينية إبان فترة تأسيس الدولة، تراجعت حاجتها بشكل كبير إلى هذا الأسلوب القتالي.

وعلى الرغم من أن جيش الاحتلال قد اشتبك مع الفلسطينيين في عدة مدن في الضفة الغربية المحتلة، ونفذت وحداته الخاصة من المستعربين عمليات تصفية دنيئة ضد النشطاء الفلسطينيين، فإن الحرب الشاملة التي فرضتها عملية "طوفان الأقصى" على مدى طويل في شوارع غزة المكتظة بالسكان، تسببت في خسائر فادحة في صفوف جنوده، وذلك لعدم اعتياد الجيش النظامي الإسرائيلي على هذا النوع من القتال الشرس داخل المدن والأحياء الضيقة، التي تشكل عاملَ دفاع قوي لأصحاب الأرض، وتضع الجنود الإسرائيليين في مواجهات مباشرة وقريبة مع المقاومة الفلسطينية.

5- إسرائيل لا تبكي ضحاياها

نعرف جميعًا أن إسرائيل كانت تشن هجمات واسعة النطاق لفتح جبهات جديدة مع أي طرف عربي لمجرد مقتل أو إصابة جندي إسرائيلي واحد. أما اليوم، فيبدو جليًا أن هناك تغيرًا ملحوظًا في عقيدة جيش الاحتلال الصهيوني، حيث يُقتل المئات من جنوده ويصاب الآلاف الآخرون دون أن تُظهر إسرائيل الأسف المعتاد على هذه الخسائر البشرية الفادحة.

ففي الماضي، كانت إسرائيل تدفع في بعض الأحيان في الصفوف الأولى بقوات من اليهود الأفارقة أو السفارديم، ما دفع البعض إلى وصف سلوكها بالعنصري والتمييزي. لكن اليوم، نجد إسرائيل تدفع بوحدات النخبة في الصفوف الأمامية دون تفرقة عنصرية أو تمييز. وقد أصبح الجيش أكثر تقبّلًا للخسائر في الأرواح، ويكرر الأخطاء التكتيكية التي تعرّض جنوده للخطر، مثل الوقوف بالقرب من فتحات الأنفاق، والاحتماء داخل مبانٍ قد تكون مفخخة.

6- جيش لا يكترث بأسراه

منذ اليوم الأول لاندلاع حرب غزة، أعلنت إسرائيل على الملأ أن هدفها الرئيسي، إلى جانب تدمير حركة حماس، هو تحرير أسراها المحتجزين لدى الحركة. ولكن يبدو أن هذا الهدف قد تلاشى وتضاءل وسط تصاعد وتيرة الحرب وتوسع نطاقها، فقد سبق لإسرائيل أن شنت عمليات عسكرية واسعة النطاق لتحرير أسير أو اثنين، إلا أنها اليوم، ومع وجود عشرات الأسرى (101 أسير) في قبضة حماس، لم تبذل الجهود المعتادة والمعهودة في سبيل استرجاعهم.

وقد توقفت المفاوضات التي كانت تُجرى بوساطة قطرية ومصرية لوقف إطلاق النار وتحرير الرهائن سلميًا، وذلك بسبب تشدد إسرائيل ورفع سقف مطالبها التعجيزية، وصولًا إلى تصعيدها الخطير باغتيال رئيس المكتب السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية في طهران في الحادي والثلاثين من شهر يوليو/تموز لعام 2024، ثم يحيى السنوار في السابع عشر من شهر أكتوبر/تشرين الأول لعام 2024.

إن كل ما سبق ذكره يشير بوضوح إلى تغير جوهري وعميق في عقيدة جيش الاحتلال الصهيوني، وهو تغيير فرضته الظروف الإقليمية والدولية المتغيرة، ورغبة إسرائيل المحمومة في استعراض قوتها العسكرية أمام خصومها وأعدائها وحلفائها الإقليميين والدوليين، والظهور بمظهر المتحمل للأهوال والصعاب، حتى وإن كان الثمن هو ارتفاع خسائرها البشرية والمادية، وذلك تأكيدًا على دورها التاريخي كحارس أمين للمصالح الأميركية والغربية في منطقة الشرق الأوسط.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة